الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} {الحمد للَّهِ} جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها من أنه تعالى مالك: لجميع الحمد من الخلق أو مستحق لأن يحمدوه و(الله) علم على المعبود بحق {رَبّ العالمين} أي مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم، يقال: عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك. وغلب في جمعه بالياء والنون أولو العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} {الرحمن الرحيم} أي ذي الرحمة وهي إرادة الخير لأهله.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} {مالك يَوْمِ الدين} أي الجزاء وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهرا فيه لأحد إلا لله تعالى بدليل {لمن الملك اليوم لله الواحدالقهارِ} [40: 16] ومن قرأ مالك فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة: أي هو موصوف بذلك دائما ك {غافر الذنب} [40: 3] فصح وقوعه صفة لمعرفة.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيرهونطلب المعونة على العبادة وغيرها.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} {اهدنا الصراط المستقيم} أي أرشدنا إليه ويبدل منه.
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بالهداية ويبدل من الذين بصلته {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} وهم اليهود {وَلاَ} وغير {الضالين} وهم النصارى ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{الم (1)} {الم} الله أعلم بمراده بذلك.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} {ذلك} أي هذا {الكتاب} الذي يقرؤه محمد {لاَ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ} أنه من عند الله وجملة النفي خبر مبتدؤه ذلك والإشارة به للتعظيم {هُدًى} خبر ثانٍ أي هاد {لّلْمُتَّقِينَ} الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} {الذين يُؤْمِنُونَ} يصدِّقون {بالغيب} بما غاب عنهم من البعث والجنة والنار {وَيُقِيمُونَ الصلاة} أي يأتون بها بحقوقها {وَمِمَّا رزقناهم} أعطيناهم {يُنفِقُونَ} في طاعة الله.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} أي التوراة والإنجيل وغيرهما {وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} يعلمون.
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} {أولئك} الموصوفون بما ذكر {على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون بالجنة الناجون من النار.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ} بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفاً وتسهيلها وإدخال ألف بين المسهَّلة والأخرى وتركه {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لعلم الله منهم ذلك فلا تطمع في إيمانهم والإنذار إعلام مع تخويف.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} طبع عليها واستوثق فلا يدخلها خير {وعلى سَمْعِهِمْ} أي مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق {وعلى أبصارهم غشاوة} غطاء فلا يبصرون الحق {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} قوي دائم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} ونزل في المنافقين {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر} أي يوم القيامة لأنه آخر الأيام {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} روعي فيه معنى (مَن)، وفي ضمير (يقول) لفظها.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} لأن وبال خداعهم راجع إليهم فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة {وَمَا يَشْعُرُونَ} يعلمون أن خداعهم لأنفسهم، والمخادعة هنا من واحد (كعاقبت اللص)، وذكر الله فيها تحسين، وفي قراءة وما يخدعون.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شك ونفاق فهو يُمْرِضُ قلوبهم أي يضعفها {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} بما أنزله من القرآن لكفرهم به {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم {بِمَا كَانُواْ يَكْذِّبُونَ} بالتشديد أي نبي الله وبالتخفيف أي في قولهم آمنا.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لهؤلاء {لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض} بالكفر والتعويق عن الإيمان {قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وليس ما نحن فيه بفساد. قال الله تعالى ردّاً عليهم:
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} {ءَلآ} للتنبيه {إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} بذلك.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس} أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} الجهال؟ أي: لا نفعل كفعلهم. قال تعالى ردّاً عليهم: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} ذلك.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} {وَإِذَا لَقُواْ} أصله لقيوا حذفت الضمة للاستثقال ثم (الياء) لالتقائها ساكنة مع الواو {الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ} منهم ورجعوا {إلى شياطينهم} رؤسائهم {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} في الدين {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} بهم بإظهار الإيمان.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} يجازيهم باستهزائهم {وَيَمُدُّهُمْ} يُمهلهم {فِي طغيانهم} بتجاوزهم الحد بالكفر {يَعْمَهُونَ} يترددون تحيُّراً حال.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي استبدلوها به {فَمَا رَبِحَت تجارتهم} أي: ما ربحوا فيها بل خَسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} فيما فعلوا.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} {مّثْلُهُمْ} صفتهم في نفاقهم {كَمَثَلِ الذى استوقد} أوقد {نَارًا} في ظلمة {فَلَمَّا أَضَاءتْ} أنارت {مَا حَوْلَهُ} فأبصر واستدفأ وأمِنَ ما يخافه {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} أطفأه وجُمِعَ الضمير مراعاة لمعنى (الذي) {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فكذلك هؤلاء آمِنُوا بإظهار كلمة الإيمان فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} هم {صُمٌّ} عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول {بِكُمْ} خرس عن الخير فلا يقولونه {عُمْىٌ} عن طريق الهدى فلا يرونه {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن الضلالة.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} {أَوْ} مثلهم {كَصَيّبٍ} أي كأصحاب مطر وأصله (صَيْوب) من (صاب يَصُوب) أي ينزل {مِّنَ السماء} السحاب {فِيهِ} أي السحاب {ظلمات} متكاثفة {وَرَعْدٌ} هو الملك الموكل به وقيل صوته {وَبَرْقٌ} لمعان سَوْطِه الذي يزجره به {يَجْعَلُونَ} أي أصحاب الصِّيب {أصابعهم} أي أناملهم {فئاذَانِهِم مِّنَ} أجل {الصواعق} شدّة صوت الرعد لئلا يسمعوها {حَذَرَ} خوف {الموت} من سماعها. كذلك هؤلاء: إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبه بالظلمات، والوعيدُ عليه المشبه بالرعد والحجج البينة المشبهة بالبرق يسدّون آذانهم لئلا يسمعوه فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم وهو عندهم موت {والله مُحِيطٌ بالكافرين} علماً وقدرةً فلا يفوتونه.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} {يَكَادُ} يقرب {البرق يَخْطَفُ أبصارهم} يأخذها بسرعة {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} أي في ضوئه {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} وقفوا، تمثيل لإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبَهم وتصديقهم لما سمعوا فيه مما يحبون ووقوفهم عما يكرهون. {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} بمعنى أسماعهم {وأبصارهم} الظاهرة كما ذهب بالباطنة {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ} شاءه {قَدِيرٌ} ومنه إذهاب ما ذُكِرَ.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} {يا أَيُّهَا الناس} أي أهل مكة {اعبدوا} وحدوا {رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ} أنشأكم ولم تكونوا شيئا {وَ} خلق {الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بعبادته عقابه، (ولعلَّ) في الأصل للترجي وفي كلامه تَعالى: للتحقيق.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} {الذى جَعَلَ} خلق {لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} حال بساطا يُفْتَرَشُ لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها {والسماء بِنَاءً} سقفاً {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ} أنواع {الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} تأكلونه وتعلفون به دوابكم {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} شركاء في العبادة {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه الخالق ولا يخلقون ولا يكون إلهاً إلا من يَخْلُقُ.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ} شك {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} محمد من القرآن أنه من عند الله {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} أي المنزل (ومن) للبيان أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب (والسورة قطعة لها أول وآخر أقلها ثلاث آيات) {وادعوا شُهَدَاءكُم} آلهتكم التي تعبدونها {مِن دُونِ الله} أي غيره لِتُعينكم {إِن كُنتُمْ صادقين} في أن محمدا قاله من عند نفسه فافعلوا ذلك فإنكم عربيون فصحاء مثله. ولما عجزوا عن ذلك قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ}.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} ما ذُكِرَ لعجزكم {وَلَن تَفْعَلُواْ} ذلك أبداً لظهور إعجازه اعتراض- {فاتقوا} بالإيمان بالله وأنه ليس من كلام البشر {النار التى وَقُودُهَا الناس} الكفار {والحجارة} كأصنامهم منها يعني أنها مفرطة الحرارة تتَّقد بما ذكر لا كَنارِ الدنيا تتَّقد بالحطب ونحوه. {أُعِدَّتْ} هُيِّئَتْ {للكافرين} يعذبون بها، جملة مستأنفة أو حال لازمة.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} {وَبَشّرِ} أخبر {الذين كَفَرُواْ} صدقوا بالله {وَعَمِلُواْ الصالحات} من الفروض والنوافل {ءانٍ} أي بأن {لَهُمْ جنات} حدائق ذات أشجار ومساكن {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي تحت أشجارها وقصورها {الانهار} أي المياه فيها، والنهر الموضع الذي يجري فيه الماء لأن الماء ينهره أي يحفره، وإسناد الجري إليه مجاز {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا} أطعموا من تلك الجنات {مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى} أي مثل ما {رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أي قبله في الجنة لتشابه ثمارها بقرينه {وَأُتُواْ بِهِ} أي جيئوا بالرزق {متشابها} يشبه بعضه بعضاً لوناً ويختلف طعماً {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج} من الحور وغيرها {مُّطَهَّرَةٍ} من الحيض وكل قذر {وَهُمْ فِيهَا خالدون} ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون، ونزل ردا لقول اليهود لما ضرب الله المثل بالذباب في قوله {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} [73: 22] والعنكبوت في قوله {كَمَثَلِ العنكبوت} [41: 29] ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة فأنزل الله.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ} يجعل {مَثَلاً} مفعول أوّل {مَا} نكرة موصوفة بما بعدها مفعول ثان أيَّ: مثل كان أو زائدة لتأكيد الخسة فما بعدها المفعول الثاني {بَعُوضَةً} مفرد (البعوض) وهو صغار البق {فَمَا فَوْقَهَا} أي أكبر منها أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلمُونَ أَنَّهُ} أي المثل {الحق} الثابت الواقع موقعه {مِن رَّبّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} تمييز: أي بهذا المثل و(ما) استفهام إنكار مبتدأ، وذا بمعنى: الذي بصلته خبره أي: أيَّ فائدة فيه؟ قالالله تعالى في جوابهم {يُضِلُّ بِهِ} أي: بهذا المثل {كَثِيراً} عن الحق لكفرهم به {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} من المؤمنين لتصديقهم به {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} الخارجين عن طاعته.
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} {الذين} نعت {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} ما عهده إليهم في الكتب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {مِن بَعْدِ ميثاقه} توكيده عليهم {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الإيمان بالنبي والرحم وغير ذلك (وأن) بدل من ضمير (به) {وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض} بالمعاصي والتعويق عن الإيمان {أولئك} الموصوفون بما ذُكِرَ {هُمُ الخاسرون} لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} يا أهل مكة {بالله وَ} قد {كُنتُمْ أمواتا} نطفاً في الأصلاب {فأحياكم} في الأرحام والدنيا بنفخ الروح فيكم؟ والاستفهام: للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو: للتوبيخ {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تُردَّون بعد البعث فيجازيكم بأعمالكم. وقال دليلاً على البعث لمّا أنكروه.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض} أي: الأرض وما فيها {جَمِيعاً} لتنتفعوا به وتعتبروا {ثُمَّ استوى} بعد خلق الأرض: أي قصد {إِلَى السماء فسواهن} الضمير يرجع إلى (السماء) لأنها في معنى الجملة الآيلة إليه أي صيرها كما في آية أخرى {فقضاهن} [12: 41] {سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} مجملاً ومفصلاً أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداء وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} {وَ} اذكر يا محمد {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدماء} يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان وكانوا فيها فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال {وَنَحْنُ نُسَبّحُ} متلبسين {بِحَمْدِكَ} أي: نقول سبحان الله وبحمده {ونقدس لك} ننزهك عما لايليق بك فاللام زائدة والجملة: حال أي: فنحن أحق بالاستخلاف. {قَالَ} تعالى {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من المصلحة في استخلاف آدم وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم فقالوا: لن يخلق ربنا خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره فخلق الله تعالى آدم من أديم الأرض أي: وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسوَّاهُ ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً.
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} {وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء} أي: أسماء المسميات {كُلَّهَا} القصعه والقُصَيْعَة والفسوة والفُسيَّة والمِغْرَفَة بأن ألقى في قلبه علمها {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} أي المسميات وفيه تغليب العقلاء {عَلَى الملائكة فَقَالَ} لهم تبكيتاً {أَنبِئُونِى} أخبروني {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} المسميات {إِن كُنتُمْ صادقين} في أني لا أخلق أعلم منكم أو: أنكم أحق بالخلافة وجواب الشرط دل عليه ما قبله.
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} {قَالُواْ سبحانك} تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} إياه {إِنَّكَ أَنتَ} تأكيد للكاف {العليم الحكيم} الذي لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.
{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} {قَالَ} تعالى: {قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم} أي: الملائكة {بِأَسْمَائِهِمْ} المسميات فسمى كل شيء باسمه وذكر حكمته التي خُلِقَ لها، {فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ} تعالى لهم موبخاً {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض} ما غاب فيهما {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} ما تظهرون من قولكم: (أتجعل فيها) الخ {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} تسرون من قولكم: (لن يخلق الله أكرم عليه منا ولا أعلم)؟
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} {وَ} اذكر {إِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوالأدم} سجود تحية بالانحناء {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} هو أبو الجنّ كان بين الملائكة {أبى} امتنع عن السجود {واستكبر} تكبر عنه وقال أنا خير منه {وَكَانَ مِنَ الكافرين} في علم الله.
{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} {وَقُلْنَا يَاءادَمُ اسكن أَنتَ} تأكيد للضمير المستتر ليُعْطَفَ عليه: {وَزَوْجُكَ} حوّاء بالمدّ وكان خلقها من ضلعه الأيسر {الجنة وَكُلاَ مِنْهَا} أكلا {رَغَدًا} واسعاً لا حَجْرَ فيه {حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} أي بالأكل منها وهي الحنطة أو الكرم أو غيرهما {فَتَكُونَا} فتصيرا {مِنَ الظالمين} العاصين.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} إبليس أذهبهما وفي قراءة (فأزالهما) نحّاهما {عَنْهَا} أي الجنة بأنْ قال لهما: {هل أدلّكما عَلَى شَجَرَةِ الخُلْد} [20: 120] {وقاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [21: 7] فأكلا منها {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم {وَقُلْنَا اهبطوا} إلى الأرض أي أنتما بما اشتملتما عليه من ذرّيتكما {بَعْضُكُمْ} بعض الذرية {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} من ظلم بعضكم بعضاً {وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ} موضع قرار {ومتاع} ما تتمتعون به من نباتها {إلى حِينٍ} وقت انقضاء آجالكم.
{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات} ألهمه إيَّاها وفي قراءة بنصب (آدم) ورفع (كلمات) أي جاءه وهي {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [23: 7] الآية فدعا بها {فَتَابَ عَلَيْهِ} قَبِلَ توبته {إِنَّهُ هُوَ التواب} على عباده {الرحيم} بهم.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا} من الجنة {جَمِيعاً} كرره ليعطف عليه {فَإِمَّا} فيه إدغام نون (إن) الشرطية في (ما) الزائدة {يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} كتاب ورسول {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} فآمن بي وعمل بطاعتي {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} كتبنا. {أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} {يابنى إسراءيل} أولاد يعقوب {اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي على آبائكم من الإنجاء من فرعون وفلق البحر وتظليل الغمام وغير ذلك بأن تشكروها بطاعتي {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى} الذي عهدته إليكم من الإيمان بمحمد {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الذي عهدته إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة {وإياى فارهبون} خافونِ في ترك الوفاء به دون غيري.
{وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)} {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} من القرآن {مُصَدِّقاً لّمَا مَعَكُمْ} من التوراة بموافقته له في التوحيد والنبوّة {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} من أهل الكتاب لأن خَلَفَكم تَبَعٌ لكم فإثمهم عليكم {وَلاَ تَشْتَرُواْ} تستبدلوا {بآياتي} التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضاً يسيراً من الدنيا أي لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم {وإياى فاتقون} خافون في ذلك دون غيري.
{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} {وَلاَ تَلْبِسُواْ} تخلطوا {الحق} الذي أنزلت عليكم {بالباطل} الذي تفترونه {وَ} لا {تَكْتُمُواْ الحق} نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه الحق.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واركعوا مَعَ الراكعين} صلوا مع المصلين محمد وأصحابه، ونزل في علمائهم وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين: اثبتوا على دين محمد فإنه حق.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} بالإيمان بمحمد {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} تتركونها فلا تأمرونها به {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل؟ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} سُوْءَ فعلكم فترجعون؟ فجملة النسيان محل الاستفهام الإنكاري.
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} {واستعينوا} اطلبوا المعونة على أموركم {بالصبر} الحبس للنفس على ما تكره {والصلاة} أفردها بالذكر تعظيما لشأنها وفي الحديث «كان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر بادر إلى الصلاة» وقيل. الخطاب لليهود لمّا عاقهم عن الإيمان الشَّرَهُ وحب الرياسةأمروا بالصبر وهو الصوم لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر {وَإِنَّهَا} أي الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} الساكنين إلى الطاعة.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} {الذين يَظُنُّونَ} يوقنون {أَنَّهُمْ ماقوا رَبّهِمْ} بالبعث {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون} في الآخرة فيجازيهم.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالشكر عليها بطاعتي {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ} أي آباءكم {عَلَى العالمين} عالمي زمانهم.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} {واتقوا} خافوا {يَوْمًا لاَّ تَجْزِى} فيه {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} وهو يوم القيامة {وَلاَتُقْبَلُ} بالتاء والياء {مِنْهَا شفاعة} أي ليس لها شفاعة فتقبل (فما لنا من شافعين) {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} فداء {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله.
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} {وَ} اذكروا {إِذْ نجيناكم} أي آباءكم والخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا بما أنعم الله على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم {سُوءَ العذاب} أشدّه والجملة حال من ضمير (نجيناكم) {يُذَبّحُونَ} بيان لما قبله {أَبْنَاءكُمْ} المولودين {وَيَسْتَحْيُونَ} يستبقون {نِسَاءكُمْ} لقول بعض الكهنة له: إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبباً لذهاب ملكك {وَفِى ذلكم} العذاب أو الإنجاء {بَلاءٌ} ابتلاء أو إنعام {مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ}.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} {وَ} اذكروا {إِذْ فَرَقْنَا} فلقنا {بِكُمْ} بسببكم {البحر} حتى دخلتموه هاربين من عدوّكم {فأنجيناكم} من الغرق {وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ} قومه معه {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} إلى انطباق البحر عليهم.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)} {وَإِذْ واعدنا} بألف ودونها {مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} نعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها {ثُمَّ اتخذتم العجل} الذي صاغه لكم السامريُّ إلهاً {مِن بَعْدِهِ} أي بعد ذهابه إلى ميعادنا {وَأَنتُمْ ظالمون} باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها.
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} محونا ذنوبكم {مِن بَعْدِ ذلك} الاتخاذ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمتنا عليكم.
{وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} {وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب} التوراة {والفرقان} عطف تفسير، أي الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} به من الضلال.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} الذين عبدوا العجل {ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} إلهاً {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ} خالقكم من عبادته {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريءُ منكم المجرم {ذلكم} القتل {خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} فوفقكم لفعل ذلك وأرسل عليكم سحابة سوداء لئلا يبصر بعضكم بعضاً فيرحمه حتى قُتِلَ منكم نحو سبعين ألفاً {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} {وَإِذْ قُلْتُمْ} وقد خرجتم مع موسى لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل وسمعتم كلامه {ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} عيانا {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} الصيحة فمُتُّم {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ما حلّ بكم.
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} {ثُمَّ بعثناكم} أحييناكم {مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمتنا بذلك.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} سترناكم بالسحاب الرقيق من حرّ الشمس في التيه {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ} فيه {المن والسلوى} هما الترَنْجبِين والطير السُّمَاني بتخفيف الميم والقصر-، وقلنا: {كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} ولا تدَّخروا، فكفروا النعمة وادَّخروا فقطع عنهم {وَمَا ظَلَمُونَا} بذلك {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنّ وباله عليهم.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)} {وَإِذْ قُلْنَا} لهم بعد خروجهم من التيه {ادخلوا هذه القرية} بيت المقدس أو أريحا {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} واسعاً لا حَجْرَ فيه {وادخلوا الباب} أي بابها {سُجَّدًا} منحنين {وَقُولُواْ} مسألَتُنا {حِطَّةٌ} أي أن تَحُطُّ عنا خطايانا {نَّغْفِرْ} وفي قراء بالياء والتاء مبنيًّا للمفعول فيهما {لَكُمْ خطاياكم وَسَنَزِيدُ المحسنين} بالطاعة ثواباً.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} منهم {قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} فقالوا حبة في شَعَرَةٍ ودخلوا يزحفون على أستاههم {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} فيه وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقبيح شأنهم {رِجْزًا} عذاباً طاعوناً {مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم أي خروجهم عن الطاعة فهلك منهم في ساعة سبعون ألفاً أو أقل.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} {وَ} اذكر {إِذْ استسقى موسى} أي طلب السُّقيا {لِقَوْمِهِ} وقد عطشوا في التيه {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} وهو الذي فرّ بثوبه خفيف مربَّع كرأس الرجل رخام أو كِذَّان فضربه {فانفجرت} انشقت وسالت {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسباط {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} سبطٍ منهم {مَّشْرَبَهُمْ} موضع شربهم فلا يَشْرَكُهُم فيه غيرهم. وقلنا لهم {كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لعاملها من (عَثِىَ) بكسر المثلثة أفسد.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ} أي نوع منه {واحد} وهو المنّ والسلوى {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} شيئاً {مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن} للبيان {بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} حنطتها {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ} لهم موسى {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى} أخسُّ {بالذى هُوَ خَيْرٌ} أشرف؟أي أتأخذونه بدله؟، والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا الله تعالى فقال تعالى: {اهبطوا} انزلوا {مِصْرًا} من الأمصار {فَإِنَّ لَكُم} فيه {مَّا سَأَلْتُمْ} من النبات {وَضُرِبَتْ} جعلت {عَلَيْهِمُ الذلة} الذل والهوان {والمسكنة} أي أثر الفقر من السكون والخزي فهي لازمة وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكَّته {وبَآءُو} رجعوا {بِغَضَبٍ مّنَ الله ذلك} أي الضرب والغضب {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين} كزكريا ويحيى {بِغَيْرِ الحق} أي ظلما {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} يتجاوزون الحدّ في المعاصي وكرره للتأكيد.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} بالأنبياء من قبل {والذين هَادُواْ} هم اليهود {والنصارى والصابئين} طائفة من اليهود أو النصارى {مَنْ ءَامَنَ} منهم {بالله واليوم الأخر} في زمن نبينا {وَعَمِلَ صالحا} بشريعته {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي ثواب أعمالهم {عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} روعي في ضمير (آمن) و(عمل) لفظ (من) وفيما بعده معناها.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)} {وَ} اذكر {إِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} عهدكم بالعمل بما في التوراة {وَ} قد {رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} الجبل اقتلعناه من أصله عليكم لمَّا أبيتم قبولها وقلنا {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} بجدّ واجتهاد {واذكروا مَا فِيهِ} بالعمل به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} النار أو المعاصي.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم {مِن بَعْدِ ذلك} الميثاق عن الطاعة {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لكم بالتوبة أو تأخير العذاب {لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} الهالكين.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} {وَلَقَدْ} لام قسم {عَلِمْتُمُ} عرفتم {الذين اعتدوا} تجاوزوا الحدّ {مِنكُمْ فِى السبت} بصيد السمك وقد نهيناهم عنه وهم أهل (أيلَةَ) {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} مبعدين فكانوها، وهلكوا بعد ثلاثة أيام.
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} {فجعلناها} أي تلك العقوبة {نكالا} عبرة مانعة من ارتكاب مثل ما عملوا {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي الأمم التي في زمانها وبعدها {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} الله وخَصُّوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)} {وَ} اذكر {إِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} وقد قُتل لهم قتيل لا يُدرى قاتله وسألوه أن يدعوَ الله أن يُبَيِّنَهُ لهم فدعاه {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} مهزوءا بنا حيث تجيبنا بمثل ذلك؟ {قَالَ أَعُوذُ} أمتنع {بالله} من {أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} المستهزئين.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)} فلما علموا أنه عَزْمٌ {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} أي ما سنها {قَالَ} موسى {إنَّهُ} أي الله {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ} مُسِنَّة {وَلاَ بِكْرٌ} صغيرة {عَوَانٌ} نَصَفٌ {بَيْنَ ذلك} المذكور من السنين {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} به من ذبحها.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)} {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} شديدة الصفرة {تَسُرُّ الناظرين} إليها بحسنها أي تعجبهم.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)} {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} أسائمة أم عاملة؟ {إِنَّ البقر} أي جنسه المنعوت بما ذكر {تشابه عَلَيْنَا} لكثرته فلم نهتد إلى المقصود {وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ} إليهافي الحديث: «لو لم يستثنوا لما بُيّنت لهم لآخر الأبد».
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} غير مذللة بالعمل {تُثِيرُ الأرض} تقلبها للزراعة، والجملة صفة (ذلول) داخلة في النفي {وَلاَ تَسْقِى الحرث} الأرض المهيأة للزراعة {مُّسَلَّمَةٌ} من العيوب وآثار العمل {لاَّ شِيَةَ} لون {فِيهَا} غير لونها {قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق} نطقت بالبيان التام فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار بأمه فاشتروها بملء مَسْكها ذهبا {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها وفي الحديث «لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأتهم ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم»
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)} {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادرءتم} فيه إدغام (التاء) في الأصل في (الدال) أي تخاصمتم وتدافعتم {فِيهَا والله مُخْرِجٌ} مظهر {مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} من أمرها وهذا اعتراض وهو أول القصة.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} {فَقُلْنَا اضربوه} أي القتيل {بِبَعْضِهَا} فُضربَ بلسانها أو عَجْب ذنبها فحيي وقال: قتلني فلان وفلان لابني عمه ومات فحُرِما الميراث وقتِلا، قال تعالى: {كذلك} الإحياء {يُحْى اللهالموتىويريكم ءاياته} دلائل قدرته {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أيها اليهود صلبت عن قبول الحق {مِن بَعْدِ ذلك} المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات {فَهِىَ كالحجارة} في القسوة {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} منها {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} فيه إدغام (التاء) في الأصل في (الشين) {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من علو إلى سُفْلٍ {مِّنْ خَشْيَةِ الله} وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وإنما يؤخركم لوقتكم وفي قراءة بالتحتانية [يعلمون] وفيه الإلتفاف عن الخطاب.
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} {أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أي اليهود {لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} طائفة {مِنْهُمْ} أحبارهم {يَسْمَعُونَ كلام الله} في التوراة {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} يغيرونه {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} فهموه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مفترون؟ والهمزة للإنكار أي لا تطمعوا فلهم سابقة بالكفر.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)} {وَإِذَا لَقُواْ} أي منافقوا اليهود {الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيّ وهو المبشر به في كتابنا {وَإِذَا خَلاَ} رجع {بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ} أي رؤساؤهم الَّذين لم ينافقوا لمن نافق {أَتُحَدّثُونَهُم} أي المؤمنين {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} أي عرّفكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {لِيُحَاجُّوكُم} ليخاصموكم واللام للصيرورة {بِهِ عِندَ رَبّكُمْ} في الآخرة ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه؟ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أنهم يحاجونكم إذا حدثتموهم فتنتهون.
{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} قال تعالى {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} الاستفهام للتقرير والواو الداخل عليها للعطف {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ما يخفون وما يظهرون من ذلك وغيره فَيرعَوُوا عن ذلك؟
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} {وَمِنْهُمْ} أي اليهود {أُمّيُّونَ} عوامّ {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} التوراة {إِلاَّ} لكن {أَمَانِىَّ} أكاذيب تَلَقَّوْها من رؤسائهم فاعتمدوها {وَإِن} ما {هُمْ} في جحد نبوّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وغيره مما يختلقونه {إِلاَّ يَظُنُّونَ} ظنا ولا علم لهم.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} {فَوَيْلٌ} شدّة عذاب {لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} أي مُخْتَلقاً من عندهم {ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} من الدنيا وهم اليهود غيَّروا صفة النبي في التوراة وآية الرجم وغيرهما وكتبوها على خلاف ما أَنزل {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} من المختلق {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من الرشا جمع رشوة.
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} {وَقَالُواْ} لما وعدهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم النارَ {لَن تَمَسَّنَا} تصيبنا {النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} قليلة أربعين يوماً مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول {قُلْ} لهم يا محمد {أَتَّخَذْتُمْ} حذفت منه همزة الوصل استغناء بهمزة الاستفهام {عِندَ الله عَهْدًا} ميثاقاً منه بذلك {فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} به لا {أَمْ} بَلِ {تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} {بلى} تَمَسُّكم وَتُخَلَّدونَ فيها {مَن كَسَبَ سَيّئَةً} شركا {وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ} بالإفراد والجمع [خطيئاته] أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركاً {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} روعي فيه معنى (منَ).
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} {وَ} اذكر. {إِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسراءيل} في التوراة وقلنا {لاَ تَعْبُدُونَ} بالتاء والياء {إِلاَّ الله} خبر بمعنى النهي، وقرئ: (لا تعبدوا) {و} أحسنوا {بالوالدين إحسانا} برّاً {وَذِى القربى} القرابة عطف على (الوالدين) {واليتامى والمساكين وَقُولُواْ لِلنَّاسِ} قولاً {حُسَنًا} من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد والرفق بهم، وفي قراءة بضم الحاء وسكون السين مصدر وُصِفَ به مبالغة {وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزكاوة} فقبلتم ذلك {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الوفاء به، فيه التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} عنه كآبائكم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)} {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} وقلنا {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} تريقونها بقتل بعضكم بعضاً {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم} لا يخرج بعضكم بعضاً من داره {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} قبلتم ذلك الميثاق {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} على أنفسكم.
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} {ثُمَّ أَنتُمْ} يا {هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} يقتل بعضكم بعضاً {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم تظاهرون} فيه إدغام (التاء) في الأصل في (الظاء) وفي قراءة بالتخفيف على حذفها تتعاونون {علَيْهِم بالإثم} بالمعصية {والعدوان} الظلم {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى} وفي قراءة (أسرى) {تُفْدوهم} وفي قراءة: (تفادوهم): تنقذوهم من الأسر بالمال أو غيره وهو مما عُهِدَ إليهم {وَهُوَ} أي الشأن {مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} متصل بقوله و(تخرجون) والجملة بينهما اعتراض أي كما حُرِمَ ترك الفداء، وكانت قريظةُ حالفوا الأوسَ والنضيرَ الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أُسِرُوا فدوهم، كانوا إذا سئلوا لم تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: أُمرنا بالفداء فيقال فلم تقاتلونهم؟ فيقولون حياء أن تُسْتَذَلَّ حلفاؤنا؟ قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} وهو الفداء {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة؟ {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ} هوانٌ وذل {فِى الحياوة الدنيا} وقد خزوا بقتل قريظة ونفي النضير إلى الشام وضرب الجزية {وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدّ العذاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالياء والتاء.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} {أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة} بأن آثروها عليها {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون منه.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} أي أتبعناهم رسولاً في إ ثر رسول {ءاتَيْنَا عِسَى ابن مريمالبينات} المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص {وأيدناه} قوّيناه {بِرُوحِ القدس} من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح المقدّسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار فلم تستقيموا {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى} تحب {أَنفُسَكُمْ} من الحق {استكبرتم} تكبرتم عن اتباعه؟ جواب (كلما) وهو محل الاستفهام، والمراد به التوبيخ {فَفَرِيقًا} منهم {كَذَّبْتُمْ} كعيسى {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} المضارع لحكاية الحال الماضية أي: قتلتم كزكريا ويحيى؟
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} {وَقَالُواْ} للنبي استهزاء {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلف أي مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول قال تعالى: {بَلِ} للإضراب {لَّعَنَهُمُ الله} أبعدهم من رحمته وخذلهم عن القبول {بِكُفْرِهِمْ} وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (ما) زائدة لتأكيد القلة أي إيمانهم قليل جداً.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} {وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب مّنْ عِندِ الله مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ} من التوراة: هو القرآن {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ} قبل مجيئه {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون {عَلَى الذين كَفَرُواْ} يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث آخر الزمان {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ} من الحق وهو بعثة النبيّ {كَفَرُواْ بِهِ} حسداً وخوفاً على الرياسة، وجواب (لمّا) الأولى دل عليه جواب لمّا الثانية {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين}.
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} {بِئْسَمَا اشتروا} باعوا {بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي حظها من الثواب، (وما) نكرة بمعنى (شيئاً) تمييز لفاعل (بئس) والمخصوص بالذمّ {أَن يَكْفُرُواْ} أي كفرهم {بِمَا أنزَلَ الله} من القرآن {بَغِيّاً} مفعول له (ليكفروا) أي: حسداً على {أَن يُنَزّلُ الله} بالتخفيف والتشديد {مِن فَضْلِهِ} الوحي {على مَن يَشَاء} للرسالة {مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءو} رجعوا {بِغَضَبٍ} من الله بكفرهم بما أنزل والتنكير للتعظيم {على غَضَبٍ} استحقوه من قبل بتضييع التوراة والكفر بعيسى {وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ} ذو إهانة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} القرآن وغيره {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي التوراة قال تعالى: {وَيَكْفُرونَ} الواو للحال {بِمَا وَرَاءَهُ} سواه أو بعده من القرآن {وَهُوَ الحق} حال {مُصَدِّقاً} حال ثانية مؤكدة {لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ} لهم {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} أي قتلتم {أَنبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم؟ والخطاب للموجودين في زمن نبينا بما فعل آباؤهم لرضاهم به.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} {وَلَقَدْ جَاءَكُم موسى بالبينات} بالمعجزات كالعصا واليد وفلق البحر {ثُمَّ اتخذتم العجل} إلهاً {مِن بَعْدِهِ} من بعد ذهابه إلى الميقات {وَأَنتُمْ ظالمون} بإتخاذه.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} على العمل بما في التوراة {وَ} قد {رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} الجبل حين امتنعتم من قبولها ليسقط عليكم وقلنا {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} بجدّ واجتهاد {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول {قَالُواْ سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا} أمرك {وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل} أي خالط حبه قلوبهم كما يخالط الشراب {بِكُفْرِهِمْ قُلْ} لهم {بِئْسَمَا} شيئاً {يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} بالتوراة من عبادة العجل {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بها كما زعمتم المعنى: لستم بمؤمنين لأن الإيمان لا يأمر بعبادة العجل، والمراد: آباؤهم أي فكذلك أنتم لستم بمؤمنين بالتوراة وقد كذبتم محمداً والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه.
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} {قُلْ} لهم {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الأخرة} أي الجنة {عِندَ الله خَالِصَةً} خاصة {مّن دُونِ الناس} كما زعمتم {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين} تعلق بتمنّيه الشرطان على أنّ الأوّل قيد في الثاني أي إن صدقتم في زعمكم أنها لكم ومن كانت له يؤثرها والموصل إليها الموت فتمنوه.
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} الكافرين فيجازيهم.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} لام قسم {أَحْرَصَ الناس على حياة و} أحرص {مِنَ الذين أَشْرَكُواْ} المنكرين للبعث عليها لعلمهم بأنّ مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له {يَوَدُّ} يتمنى {أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (لو) مصدرية بمعنى (أن) وهي بصلتها في تأويل مصدر مفعول (يودّ) {وَمَا هُوَ} أي أحدهم {بِمُزَحْزِحِهِ} مبعده {مِّنَ العذاب} النار {أَن يُعَمَّرَ} فاعل مزحزحه أي تعميره {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} بالياء والتاء فيجازيهم. وسأل ابن صوريا النبي أو عمر عمن يأتي بالوحي من الملائكة فقال جبريل فقال هو عدوّنا يأتي بالعذاب ولو كان ميكائيل لآمنا لأنه يأتي بالخصب والسلم فنزل:
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} {قُلْ} لهم {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} فليمت غيظاً {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} أي القرآن {على قَلْبِكَ بِإِذْنِ} بأمر {الله مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قبله من الكتب {وهدى} من الضلالة {وبشرى} بالجنة {لِلْمُؤْمِنِينَ}.
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} {مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} بكسر الجيم وفتحها بلا همز [جَبْريل] وبه بياء جَبْرَئيل ودونها [جَبْرَئل] {وميكال} عطف على الملائكة من عطف الخاص على العام وفي قراءة (ميكائيل) بهمز وياء [ميكائل] وفي أخرى بلا ياء {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين} أوقعه موقع (لهم) بياناً لحالهم.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {آيَاتٍ بَيّنَاتٍ} أي واضحات، حال. ردّ لقول ابن صوريا للنبي: ما جئتنا بشيء {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون}.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} {أ} كفروا بها {وكُلَّمَا عاهدوا} الله {عَهْداً} على الإيمان بالنبي إن خرج، أو النبي أن لا يعاونوا عليه المشركين {نَّبَذَهُ} طرحه {فَرِيقٌ مّنْهُمُ} بنقضه، جواب (كلّما) وهو محل الاستفهام الإنكاري {بَل} للانتقال {أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله} محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله} أي التوراة {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله.
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} {واتبعوا} عطف على نبذ {مَا تَتْلُواْ} أي تلت {الشياطين عَلَى} عهد {مُلْكِ سليمان} من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نُزِعَ ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدوّنونه وفشا ذلك وشاع أنّ الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه ورفضوا كتب أنبيائهم. قال تعالى- تبرئة لسليمان ورداً على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً-: {وَمَا كَفَرَ سليمان} أي لم يعمل السحر لأنه كفر {ولكن} بالتشديد والتخفيف {الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر} الجملة حال من ضمير (كفروا) {وَ} يعلمونهم {مَا أُنْزِلَ عَلَى الملكين} أي أُلْهِمَاه من السحر وقرئ بكسر اللام الكائنين {بِبَابِلَ} بلد في سواد العراق {هاروت وماروت} بدل أو عطف بيان للملكين قال ابن عباس هما ساحران كانا يعلمان السحروقيل ملكان أُنْزِلاَ لتعليمه ابتلاء من الله إلى الناس {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ} زائدة {أَحَدٍ حتى يَقُولاَ} له نصحاً {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} بلية من الله إلى الناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن {فَلاَ تَكْفُرْ} بتعلمه فإن أبى إلا التعليم علماه {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} بأن يُبَغِّضَ كلاًّ إلى الآخر {وَمَا هُمْ} أي السحرة {بِضَارّينَ بِهِ} بالسحر {مِنْ} زائدة {أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بإرادته {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} في الآخرة {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} وهو السحر {وَلَقَدْ} لام قسم {عَلِمُواْ} أي اليهود {لِمَنِ} لام ابتداء معلقة لما قبلها (وَمَنْ) موصولة {اشتراه} اختاره أو استبدله بكتاب الله {مَا لَهُ فِى الأخرة مِنْ خلاق} نصيب في الجنة {وَلَبِئْسَ مَا} شيئاً {شَرَوْاْ} باعوا {بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي الشارين: أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} {وَلَوْ أَنَّهُمْ} أي اليهود {ءامَنُواْ} بالنبي والقرآن {واتقوا} عقاب الله بترك معاصيه كالسحر، وجواب (لو) محذوف: أي لأثيبوا دل عليه {لَمَثُوبَةٌ} ثواب وهو مبتدأ واللام فيه للقسم {مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} خبره مما شروا به أنفسهم {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أنه خير لما آثروه عليه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ} للنبي {راعنا} أمر من (المراعاة) وكانوا يقولون له ذلك وهي بلغة اليهود سب من (الرعونة) فسُرُّوا بذلك وخاطبوا بها النبيَّ فنُهي المؤمنون عنها {وَقُولُواْ} بدلها {انظرنا} أي انظر إلينا {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول {وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم هو النار.
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} من العرب عطف على (أهل الكتاب)، (ومن) للبيان، {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ} زائدة {خَيْرٍ} وحي {مِّن رَّبّكُمْ} حسداً لكم {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} نبوّته {مَن يَشَاءُ والله ذُو الفضل العظيم}.
|